الغيرة خلق الكرام


إن الغيرة خلق كريم جبل عليه الإنسان السوي الذي كرمه ربه وفضله، وقد أعلى الإسلام قدرها وأشاد بذكرها ، ورفع شأنها حتى عد الدفاع عن العرض والغيرة على الحريم جهادا يبذل من أجله الدم ، ويضحى في سبيله بالنفس ، ويجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة. فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".




معنى الغيرة:

الغيرة تغير القلب وهيجان الغضب بسبب الإحساس بمشاركة الغير فيما هو حق الإنسان ، و أشد ما يكون ذلك بين الزوجين ، وهذه الغريزة يشترك فيها الرجال والنساء بل قد تكون في النساء أكثر و أشد.
و تتأجج أكثر إذا أحست المرأة بخيانة زوجها أو بتطلعه للأخريات ، وقد تثور تلك الغيرة عند الرجال إذا شك في سلوك زوجته أو أحس بتطلعها إلى الرجال.




حكم الغيرة:

الغيرة في موطنها والاعتدال فيها بالنسبة للرجال و النساء من جملة الأمور المحمودة ، والمعاشرة بالمعروف تقتضي ذلك ، ويجب على كل طرف أن يقدر غيرة صاحبه عليه ، وما من أمر إلا و له طرفان ووسط ،




الغيرة من مظاهر الرجولة:

الغيرة في موضعها مظهر من مظاهر الرجولة الحقيقية ، و فيها صيانة للأعراض ، و حفظ للحرمات ، و تعظيم لشعائر الله و حفظ لحدوده ، و هي مؤشر على قوة الإيمان و رسوخه في القلب ، و لذلك لا عجب أن ينتشر التحلل و التبرج و التهتك و الفجور في أنحاء العالم الغربي وما يشابهه من المجتمعات؛ لضعف معاني الغيرة أو فقدانها .
ولقد رأينا هذا الخلق يستقر في نفوس العرب حتى الجاهليين الذين تذوقوا معاني تلك الفضائل ، فإذا هم يغارون على أعراض جيرانهم حتى من هوى أنفسهم، يقول عنترة مفاخرا بنفسه:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها


وربما قامت الحروب غيرة على المرأة، وحمية لشرفها ، واستجابة لاستغاثتها واستنجادها، فقد تدافع العرب يوم الفجار، وكان من أمر ذلك أن شبابا من كنانة رأوا امرأة في سوق عكاظ فسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فأخذوا يسخرون منها ، فنادت: يا آل عامر، فلبتها سيوف بني عامر، ووقفت كنانة تدرأ عن فتيانها، وهاجت هوازن لبني عامر، وثارت قريش لكنانة؛ فتفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء...




تجاوز حد الاعتدال في الغيرة:

إذا زادت الغيرة عن حدها كانت نقمة على الشخص و على من حوله ، فكثير مما يسمى جرائم العرض و الشرف قد ترتكب بسبب الشائعات ، مما ترتب عليه إزهاق الأرواح في بعض الأحيان دون وجه حق و دون تثبت بسبب الغيرة القاتلة ، و هذا مشاهد في الكثير من البقاع .
وبعض الأزواج مريض بمرض الشك المر الذي يحيل الحياة الزوجية إلى نكد لا يطاق وقد : " نهى النبي - صلي الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلا ً يتخونهم ويطلب عثراتهم". رواه مسلم.
فلا يصح أن يسيء الرجل الظن بزوجه، وليس له أن يسرف في تقصي كل حركاتها وسكناتها ؛ فإن ذلك يفسد العلاقة الزوجية ويقطع ما أمر الله به أن يوصل .
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : لا تكثر الغيرة على أهلك فترامى بالسوء من أجلك .
وقال معاوية رضي الله عنه : " ثلاث من خصال السؤدد : الصفح واندماج البطن وترك الإفراط في الغيرة".
فلا بد من الاعتدال ، وحده ما وردت به النصوص الشرعية. وفي ذلك يقول النبي صلي الله عليه وسلم: " إن الله يغار و المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ". رواه البخاري. فإذا انتهكت النساء ما حرم الله وجبت الغيرة وكانت محمودة ، وترك تلك الغيرة مذموم بل يمنع صاحبه من دخول الجنة كما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا : الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر". قالوا يا رسول الله: أما مدمن الخمر فقد عرفناه ، فما الديوث ؟ قال: " الذي لا يبالي من دخل على أهله ".
قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال : " التي تشبه بالرجال ".




مراعاة غيرة الآخرين:

إذا كان الرجل قد يشعر بألم الفقد أو بشيء من الغيرة إذا تركه صاحبه وانتقل إلى غيره ، فينبغي علينا أن نقدر غيرة أم الزوج التي تشعر بفقد ولدها وانتقاله إلى غيرها، بعد أن احتضنته طوال عمره ، وبذلت الغالي والنفيس من أجل أن يصبح رجلا له شأن في الحياة .
وكما يغار الرجل على أهله ينبغي عليه أن يقدر غيرتها عليه ، فلا يصح أن يبدي إعجابه بالنساء فضلاً عن حكاية المغامرات النسائية سواء قبل الزواج أوبعده ؛ فهذا مما لا يُفتخر به بل ينبغي إخفاؤه والتوبة منه وستره.
وعلى المرأة أن تكبح جماح نفسها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً و إلا فما أشد غيرة النساء . يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) [ البقرة: 25 ] أي: طهرن من الحيض و البول وكل أذى يكون في نساء الدنيا ، وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وإرادة غيرهم.




غيرة الرب جل وعلا:

وردت النصوص الشرعية بإثبات الغيرة للرب جل وعلا ، وغيرة الله عز وجل حقيقية على ما يليق بجلاله وكماله ، ومن لوازمها كراهية وقوع العبد في المعاصي وإشراكه غير الله فيما هو حق للمولي سبحانه وحده من التزام أوامره واجتناب معاصيه .
قال النبي صلي الله عليه وسلم:" إن الله يغار و المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ". رواه البخاري .
وقال:" لا أحد أغير من الله عز وجل ؛ لذلك حرم الفواحش ما ظهر وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ". (رواه البخاري ومسلم). وفى رواية : " المؤمن يغار والله أشد غيرة ". (رواه البخاري ومسلم).
وقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - :" أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه ، والله أغير مني ". (رواه البخاري ومسلم) .




غيرة الزوج على زوجه:

قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: " لو رأيت رجلا ً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، و الله أغير مني ".( رواه البخاري ومسلم).
ولما دخل الثوار على عثمان بن عفان رضي الله عنه نشرت زوجه نائلة شعرها، كأنها تستنصر بمروءة هؤلاء الثائرين. فصرخ فيها عثمان وهو يقول: خذي خمارك فلعمري لدخولهم علىَّ أهون من حرمة شعرك. فالرجل يغار على زوجه غيرة يصونها بها ويحفظها من كل ما يخدش شرفها ويمتهن كرامتها.




غيرة الزوجة على زوجها:

سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عائشة يوما ً : " أغرت ؟ فتعجبت وقالت : ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك " (رواه مسلم) .
وعن أنس ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام ، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم ، فسقطت الصحفة ، فانفلقت ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ، ويقول:" غارت أمكم ". ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها ، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت .( رواه البخاري ).

إن حياة الغيرة التي يحياها المجتمع المسلم، والتي يسمو بها فوق النجوم رفعه، ويرتقي بها إلى أعلى المنازل، فضلاً وطهرًا، يقابلها في المجتمعات الكافرة في الشرق والغرب حياة الدياثة والخباثة والقذارة والحقارة واللوثة والنجاسة، والذلة والمهانة، التي قد تترفع عنها بعض الحيوانات حيث تغار فحولها على إناثها، ويقاتل الفحل دون أنثاه كل فحل يعرض لها حتى تصير إلى الغالب.
وصدق والله أئمتنا حين قالوا:إن كل أمة ضعفت الغيرة في رجالها قلت الصيانة في نسائها.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين